الدرس في كتاب الجهاد 1، الدرس الأول:( كتاب الجهاد ... ولقوله صلى الله عليه وسلم :وإذا استنفرتم فانفروا ). ألقاها الشيخ عبدالله بن مرعي العدني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد، قال المؤلف رحمه الله تعالى: كتاب الجهاد، مر معنا كثيراً أن كتاب فعال يأتي بمعنى مفعول، وهو كثير في اللغة، والمقصود من هذا أن نعلم أن معنى كتابها هنا بمعنى مكتوب. ولهذا نظائر كثيرة، ففراش فعال بمعنى مفروش، وكساء بمعنى مكسوب، وهكذا كثير في هذا الوزن وهذه الصيغة ما يأتي بمعنى فعال بمعنى مفعول. والمعنى هذا مكتوب يتعلق بأحكام الجهاد، ومعنى الكتاب في اللغة مخطة على القرطاص لحفظه، ولا شك أن ما كان كذلك فيقصد به الاعتناء بما فيه. وأما في اصطلاح أهل العلم فهو مجموعة متشابهة من العلم يدل عليها ما بعدها، فقولهم كتاب الجهاد أي هذا جزء مكتوب يتعلق بأحكام الجهاد. وقوله كتاب الجهاد جعله كتاباً على طريقة أهل العلم من تقسيم الكتب إلى كتب وأبواب وفصول، ولهم في هذا بعد متابعة من سبقهم من أهل العلم.
غرب ومقاصد، وهي كثيرة، ومن أهمها على وجه الاختصار أنها تعين على فهم العلم وتقسيمه، فتوضع مسائل كل مجموعة من العلم في المكان الذي يناسبها، فكتاب الطهارة في أحكام الطهارة، والصلاة في الصلاة، وكذلك الجهاد في الجهاد. ولا شك أن نجمع المجموعة المتشابهة من العلم في موضع واحد يعين على فهم هذا المبحث وحفظه. وهكذا كذلك يعين على حصر مسائله، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة التي ذكرها العلماء في مثل هذا المقام.
والشارح رحمه الله هو كما مر معنا في أوائل هذا الكتاب، يشرح ما يتيسر شرحه، ويعلق ما يحتاج إلى التعليق عليه في مثل هذا الكتاب وعلى هذا المنهج المتوسط، فلذلك قدم بهذه المقدمة توطئة لهذه الأحاديث الواردة في هذا الباب في كتاب الجهاد من عمدة الأحكام.
قال رحمه الله: الجهاد بكسر الجيم، أصله لغة المشقة. وهذا ظاهر، فإن معنى الجهد المشقة، قال: يقال جاهدت جهادًا، أي بلغت المشقة، أو لعل الصواب بلغت بلغت. قال: الصواب بلغت بلغت، أو بلغت. كل النسخ بلغت. طيب، يشرح هذا: أي بذلت مشقة عالية. والمقصود من هذا أن هذا المعنى اللغوي له تعلق بالمعنى الشرعي، كما سيأتي إن شاء الله. فإن المعاني الشرعية متعلقة كثيراً بالمعاني اللغوية، ولهذا قال: وشرعًا بذل الجهد في قتال الكفار والبغاة وقطاع الطريق. فقوله بذل الجهد، أي حصول المشقة البالغة التي بذلها هذا المجاهد في قتال الكفار والبغاة وقطاع الطريق. فالمعنى اللغوي له تعلق بالمعنى الشرعي، لكن المعنى الشرعي فيه من الضوابط والقيود والأحكام ما هو زائد عن ذاك المعنى اللغوي. فكل ما فيه بذل الجهد ومشقة هو مما يحصل فيه الجهد، لكن هل كله جهاد؟ الجواب: لا. لأن الجهاد الشرعي إنما هو ما توفرت فيه شروطه وضوابطه، ولهذا احتيج إلى تعريفه أو إلى وضع حد له بما يشير إلى تلك الضوابط والشروط. وسيأتي معنا إن شاء الله الإشارة إلى بعض تلك الشروط في الجهاد.
قال: وشرعًا بذل الجهد في قتال الكفار والبغاة وقطاع الطريق، هكذا عرفه. ورحمه الله هنا والكثير من أهل العلم يحصر الجهاد بقتال الكفار خاصة. والسبب في ذلك أن معنى الجهاد في الشرع يأتي في مواضع، كما سيأتي الإشارة إليه، لكن أرفع هذه المواضع وما ورد في ذلك من الفضل الخاص والأحكام الكثيرة في الدنيا والآخرة إنما هو في المعنى الأول، قتال الكفار خاصة. ففي الآخرة، بما وعد الله عز وجل المجاهدين في سبيله من الحياة التي ينعمون بها، كما قال سبحانه في كتابه الكريم: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُوَاتًا بَلَ حَيَاةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ مُرْزَقُونَ"، فرحين بما آتاهم الله، الآية، وغيرها من الآيات في هذا الباب. فهذا ليس بقتال البغاة وقطاع الطريق، هذا الفضل الخاص ليس بالبغاة وقطاع الطريق، لكنه في من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى. فهذا هو الذي في سبيل الله، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة. وهكذا في الدنيا تترتب أحكام في قتال ومجاهدة الكفار، كما سيتمعنا إن شاء الله بعضها. وليست هذه الأحكام تستوي في قتال البغاة وقطاع الطريق. ولهذا فرق العلماء في كتب الفقه بناءً على ما جاءت به الأدلة في الأحكام بين قتال الكفار وقتال البغاة وقطاع الطريق، فجعلوا قتال البغاة وقطاع الطريق في كتاب الحدود، وجعلوا قتال الكفار في كتاب الجهاد، ففرقوا بين قتال الكفار وبين قتال البغاة وقطاع الطريق لأن الأدلة الشرعية فرقت في الأحكام.
وهكذا كذلك تبعًا لذلك كان التفريق في هذا المعنى. فإن كان كذلك، فلماذا ذكر المؤلف رحمه الله البغاة وقطاع الطريق؟ الجواب: ذكرهم رحمه الله تعالى لأن هناك موضع تشابه واجتماع. فلأجل ذاك المعنى العام أدخل البغاة وقطاع الطريق، إذ أن الجهاد مجاهدتهم بالقتال مما أمر به الشرع. فالبغاة يقاتلون، والشرع أمر بقتال البغاة حتى يستتب الأمن لأهل الإسلام بعدم بغي بعضهم على بعض، قال الله عز وجل: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ"، فالله أمر بقتال البغاة. إذن معنى الجهاد موجود فيه، ثم كذلك فيه بعض الأحكام التي يوافق فيها الجهاد في سبيل الله، فإن القائم بذلك هو ولي الأمر، فيقاتل مع ولي الأمر البغاة، وإذا دعا ولي الأمر المسلمين لقتال البغاة، كذلك هو يدخل في معنى الاستنفار. وإذا استنفرتم فانفروا، وغير ذلك من الأحكام التي فيها معنى التشابه. فلذلك ذكر من ذكر من أهل العلم، ومنهم المؤلف رحمه الله، البغاة في هذا المعنى، لكن بمعنى الجهاد العام لا معناها الخاص.
إذن للجهاد معنيان: معنى عام تدخل فيه أنواع جهاد حسي وجهاد معنوي، ومن الجهاد الحسي: جهاد البغاة وقطاع الطريق. قال رحمه الله: "ومشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع". أما في الكتاب فأدل كثيرًا. قال الله عز وجل: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ"، وقال سبحانه: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"، وقال سبحانه: "ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله إذ ثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا بالآخرة إلا قليل"، وغير ذلك من الأدلة الكثيرة في كتاب الله عز وجل. وهكذا كذلك قتال البغاة على ما تقدم مشروعيته في الآية السابقة: "فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ"، وهكذا كذلك قتال قطاع الطريق. مشروعيته في آية المحاربين، فإنهم يقاتلون ويقتلون لما كان من إفسادهم، إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو يُنفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، وهذا فيه دليل أنهم يقاتلون. فإذا حصلت منهم التوبة قبل القبض عليهم، فلا يترتب عليهم حكم الحرابة، وغير ذلك مما ورد كذلك في هذا المعنى.
وأما في السنة، فأحاديث كثيرة، وسيأتي معنا إن شاء الله في هذا الكتاب بعض هذه الأحاديث، والإجماع منقول في كتب أهل العلم المبسوطة الكثيرة، في كتب الفقه والحديث وشروحهما. قال: "وَقَدْ تَكَاثَرَتِ النُّصُوصِ فِي الْأَمْرِ بِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَالْتَرْغِيبِ فِيهِ، وَسَيَأْتِي شَيْءٌ مِّنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"، وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإلا أثموا جميعًا مع العلم والقدرة. إلا في ثلاثة مواضع فيكون فرضًا عينًا. إذن الأصل في الجهاد هو أنه فرض من فروض الكفايات التي إذا قام بها البعض سقط عن الكل. هذا هو الأصل، لكن يخرج عن هذا الأصل مواضع واستثناءات دل عليها الدليل الشرعي.
قال: "إلا في ثلاثة مواضع فيكون فرض عين": الأول، إذا تقابل الفريقان، على الصواب الفريقان. إذا تقابل الفريقان تعيَّن وحرم الإنصراف. والمراد بالفريقين أي في القتال الشرعي المشروع بضوابطه، وسيأتي معنا إن شاء الله الإشارة إلى شيء من ذلك. وأما إذا كان ذلك ليس من المشروع، فالإنصراف منه هو الواجب، كقتال الفتنة. قتال الفتنة عدم الدخول فيه والإنصراف عنه مما أوجبه الشرع، فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الخوف في تلك الفتن، ومن أعظمها فتنة الدماء. وقد يشتبه هذا الباب على الكثير من الناس، خصوصًا إذا وجد من يدعو إلى ذلك وهو يضفي تلك الفتن بالصبغات الشرعية. فمع قلة العلم، وقلة الدين، وربما ما يُعرَض من شهوات الدنيا الفانية قد يكون في ذلك التغرير على بعض الناس.
والمقصود أن ننتبه أن المراد بهذا هو ما كان على الوجه الشرعي الصحيح، وسيتمعنا إن شاء الله الإشارة إلى ذلك. قال: الثاني إذا نزل العدو البلد وحاصرها، تعيَّنت مقاومته، يعني على أهل البلد، بل نصَّ بعض أهل العلم على ضرورة مقاومة من جاورهم مما لا يمكنهم دفع عدوهم إلا بهم. وسيأتي إن شاء الله كذلك في فتنايا مسائل هذا الكتاب. قال: الثالث، إذا استنفر الإمام الناس استنفارًا عامًّا أو خصَّ واحدًا بعينه، كما حصل في غزوة تبوك. فإن النبي صلى الله عليه وسلم استنفر الناس استنفارًا عامًّا، لم يجوز لأحد إلا من استثني ممن في بقائه حاجة ومن فعل المسلمين الباقين، فإنه أذن له، وإلا فالمتخلف عن ذلك آثمٌ عاصيٌ لله ولرسوله. قال: أو خصَّ واحدًا بعينه، يعني ولو كان الأصل فرض كفاية لكنه احتيج إلى واحد بعينه فيتعين عليه. بل نصَّ بعض أهل العلم في تفاصيل كتب الفقه أن ذلك قد لا يكون فقط بتعيين الإمام، بل بما قد يعلم من حاله ولو لم يطلب. يعني إذا علم أن المسلمين مثلاً يحتاجون إلى شخص عنده وصف معين في هذا القتال الكفائي ولا يوجد إلا في واحد من الناس، صار هذا الواحد بالنسبة له ماذا؟ واجبًا عينيًا وفرض عين وليس هو من الواجبات الكفائية.
قال لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ إِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِذْ ثَاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا"، فهذا فيه دليل على هذا المعنى الثالث مما يكون فيه الحكم الوجوب العيني.
طيب، نقف هنا لانتهاء الوقت. والله تعالى أعلم. شكراً.