الدرس في وقفات عقدية مع إطلالة شهر صفر، الأربعاء 27 محرم 1431هـ 13/1/2010م. ألقاها الشيخ أبو همام عبد الله باسعد
وقفات عقدية مع إطلالة شهر صفر
بسم الله , والحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
أما بعد :
فيا أيها الناس , نحن في آخر أيام شهر الله المحرم , وعلى إطلالة شهر الله صفر .
أشهر تتتابع علينا تترى تسوقنا إلى آجالنا .
تمر بنا الأيام تترى وإنما === نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائدٌ ذاك الشباب الذي مضى === ولا زائل هذا الشَيْب المكدِّر
ولنا وقفات مع إطلالة هذا الشهر , شهر صفر .
الوقفة الأولى : أن هذا الشهر كسائر الشهور الإثني عشر التي قال عنها ربنا عز وجل في كتابه الكريم {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة 36) , والتي قال عنها عليه الصلاة والسلام [ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً ... ] الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه .
الوقفة الثانية : ما كان عليه المشركون تجاه هذا الشهر :
أولاً : كان المشركون أهل الجاهلية يحلّون شهر صفر عاماً ويحرّمونه عاماً بدلاً من المحرّم الذي يحلّونه , فبين الله عز وجل أن فعلهم هذا من تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحل الله زيادة في كفرهم , فقال عز وجل {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (التوبة 37) , وكما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين أنه قال : ( كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور , ويجعلون المحرم صفر ويقولون إذا برأ الدَّبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر ..) الحديث .
ثانياً : كان أهل الجاهلية يتشاءمون بشهر صفر كما دل على ذلك حديث ابن عباس المتقدم , وما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ] الحديث , وفُسِّر قوله صلى الله عليه وسلم بتفسيرات منها : ما كان عليه أهل الجاهلية من التشاؤم بشهر صفر فجاء الشرع بنفيه والنهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم [ ولا صفر ] ورجّح هذا التفسير ابن رجب الحنبلي رحمه الله .
الوقفة الثالثة : حكم التشاؤم بشهر صفر :
التشاؤم بشهر صفر أو بغيره من الأزمة أو الأمكنة أو المسموعات أو المرئيات شرك بالله جل وعلا , قال عليه الصلاة والسلام [الطيرة شرك الطيرة شرك] رواه أبو داود والترمذي من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وصححه الألباني رحمه الله تعالى , والطيرة هي ما كان عليه العرب من التشاؤم بالطيور إذا رأوها أقبلت عليهم من خلفهم , مثلاً رجعوا عن حاجتهم من سفر أو عقد نكاح أو غير ذلك , فكل من تشاءم بمرئي أو معلوم زماني أو مكاني أو مسموع فقد وقع في التطير الذي هو شرك بالله جلّ وعلا .
وقد جاءت النصوص في الكتاب والسنة بالنهي عنه وبيان أنه من صفات أعداء الرسل والرسالات , قال تعالى {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف 131) , في هذه الآية بيان أن قوم موسى إذا كانوا في رغد من العيش وسعة في الرزق قالوا نحن الجديرون بهذا , وإذا أصابهم الجذب والقحط ونحو ذلك تشاءموا برسولهم موسى عليه السلام وأتباعه , فبين الله جل وعلا أن ما أصابهم إنما هو من عند الله عز وجل جزاء أعمالهم السيئة , قال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ . قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ . قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} (يــس 13-19) , ففي الآية بيان تطير هؤلاء أصحاب القرية برسلهم, فبين الله تعالى أن طائرهم معهم أي ملازم لهم بسبب ملازمتهم كفرهم ومعصيتهم لرسلهم.
وثبت في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال يا رسول الله : وإنا منا أناسٌ يتطيرون , فقال عليه الصلاة والسلام [فلا تأتهم] , وقال [ذلك شيءٌ يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم ..] الحديث .
الوقفة الرابعة : في بيان إتباع هذه الأمة سنة الجاهلية في هذا .
إن الناظر في أحوال طوائف من هذه الأمة يرى العجب العُجاب ويرى مصداق ما أخبر به النبي في حديث أبي سعيد في الصحيحين بقوله [لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه] قالوا يارسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : [ فمن ] الحديث , وفي لفظ خارج الصحيحين [لتركبن سنن من كان قبلكم] .
فطوائف في بلاد أهل الإسلام يتشاءمون ببعض الأزمنة كشهر صفر فلا يعقدون فيه نكاحاً ولا سفراً تشاؤماً منهم بهذا الشهر , وفي آخر أربعاء من هذا الشهر احتفلوا احتفالاً كبيراً فأقاموا الولائم والأطعمة المخصوصة والحلوى , وخرجوا إلى ساحل البحر أو المنتزهات فرحاً بحلول خروج شهر صفر , ولشاؤمهم بيوم الأربعاء كذلك فرحاً بخروجه .
وطوائف من أهل الإسلام يتشاءمون ببعض النجوم وبعض منازل القمر فلا يسافر فيها ولا يعقد نكاحاً ورحم الله عمر بن عبدالعزيز حيث خرج في سفر فقال له بعض من كان معه : يا أمير المؤمنين انظر إلى القمر ما أجمله وما أحسنه , وهو يريد أنه في منزلة الدّبران – منزلة كانوا يتشاءمون بها - , فتفطن عمر رحمه الله لمراده , فقال : إنا لا نخرج لشمسٍ ولا لقمر ولكن نخرج متوكلين على الله عز وجل .
وطوائف من أهل الإسلام يتشاءمون ببعض أصوات الحيوانات كصوت الغراب أو البومة ( الهامة ) فيرجع عن حاجته التي خرج لأجلها حين يسمع مثل هذه الأصوات , ورضي الله عن ابن عباس حين سمع رجلاً يقول : خير خير لما صاح غراب , فقال رضي الله عنه : لا خير ولا شر وبمثل هذا جاء عن مجاهد رحمه الله أو عكرمة , فقال لمن قال ذلك : لا تصحبني .
وطوائف من أهل الإسلام يتشاءمون ببعض الأمكنة فضلاً عن غيرهم من أهل الكفر الذين يتشاءمون أيضاً ببعض الأرقام وبعض الألوان وغير ذلك من ألوان التطير والذي كله من اعتقادات الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها والنهي عنها فإنا لله وإنا إليه راجعون , ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الوقفة الخامسة : في بيان صفات أهل الإيمان وصفات المحققين للتوحيد الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب :
من أعظم صفات أهل الإيمان من الأنبياء والصالحين التوكل على الله عز وجل وعدم الإلتفات إلى هذه الحوادث التي تحدث في ملكوت الله عز وجل بمعنى أنهم يعتمدون على الله عز وجل ويأخذون بالأسباب الشرعية لتحصيل مطالبهم ولايصدهم عن ذلك شيء يجعلونه علامة لحصول خير لهم أو شر , لعلمهم وإيمانهم أنَّ ذلك بتقدير الله جل وعلا – أي حصول الخير أو حصول الشر – لا دخل فيه لزمن من الأزمنة بل هي مسخّرة مدبّرة مأمورة ولا دخل لمكان من الأمكنة ولا حركة طائر ولا صوت حيوان ولا غير ذلك , فالكل من خلق الله عزّ وجل مدبّر بتدبيره ومسخّر بتسخيره جلّ وعلا , ولذلك تعلقت قلوبهم بالله جلّ وعلا فتوكّلوا عليه فأثمر لهم ذلك التوكل ذهاب ما يحصل لهم مما يجدون في أنفسهم مما لا يسلم الإنسان منه كطبيعة بشريّة , كما قال ابن مسعود ر ضي الله عنه : (وما منّا إلا ولكن يذهبه الله بالتوكل ) بعد روايته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم [الطيرة شرك الطيرة شرك] .
فهذا موسى عليه السلام يقول عنه جلّ وعلا في كتابه الكريم {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء 61-62) .
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول الله عنه في كتابه الكريم {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ..} (التوبة 40) .
وفي حديث أبي بكر في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما .
وقال للذي اخترط سيفه وقال له من يمنعك منّي ؟ قال : الله , فسقط السيف فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث .
وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام آخر ما قال وهو في النار (حسبنا الله ونعم الوكيل) كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عنهم ربنا جلّ وعلا في كتابه {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران 173) , وقال الله جلّ وعلا في كتابه في وصف أهل الإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال 2) , وقد بين عليه الصلاة والسلام صفات السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب , فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم [هم الذين لا يسترقون ولا يكتووت ولا يتطيّرون وعلى ربِّهم يتوكلون] .
والنصوص كثيرة في بيان أن التوكل على الله عز وجل من صفات أهل الإيمان بل هو شرط للإيمان كما قال تعالى {وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة 23) , وقال تعالى على لسان موسى {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس 84) .
وأما التشاؤم فمن صفات الكافرين والمشركين أعداء الرسالات والمرسلين .
وكتبه :
أبو خالد وليد مقرم
بدار الحديث بالشحر
الأربعاء 27 محرم 1431هـ 13/1/2010م