الدرس في كتاب الطهارة 4، ألقاها
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ثم أما بعد:
قالوا في كتاب الطهارة، المسألة الثانية: الماء الذي تحصل به الطهارة. بعد أن فرغ من الكلام على الطهارة، وأنها على قسمين: حسية ومعنوية، وأن الطهارة الحسية كذلك على قسمين: طهارة حدث، وطهارة خبث، انتقل إلى المسألة الثانية، وهي ما هو الماء الذي تحصل به الطهارة؟ قالوا الطهارة تحتاج إلى شيء يتطهر به، يزال به النجس، ويرفع به الحدث، وهو الماء. والماء الذي تحصل به الطهارة هو الماء الطهور، وهو الطاهر في ذاته، المطهر لغيره، وهو الباقي على أصل خلقته، أي على صفته التي خلق عليها، سواء كان نازلاً من السماء كالمطر وذوبان الثلوج والبرد، أو جارياً في الأرض كماء الأنهار والعيون والآبار والبحار.
لقوله تعالى: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به"، ولقوله تعالى: "وأنزلنا من السماء ماء طهوراً". ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم صني من خطايا بالماء والثلج والبرد"، والحديث متفق عليه. ولقوله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، وكما ذكر أن الحديث رواه الأربعة، وصححه العلامة الألباني، وهو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه. وهو أول حديث افتتح به الحافظ ابن حجر كتابه "بلوغ المرام".
قال رحمه الله، أو قالوا، ولا تحصل الطهارة بمائع غير الماء، كالخل والبنزين والعصير والليمون وما شابه ذلك. لقوله تعالى: "فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً". فلو كانت الطهارة تحصل بمائع غير الماء، لنُقِل عادم الماء إليه، ولم يُنقل إلى التيمم. هذه المسألة هي كما عنونا لها: "الماء الذي تحصل به الطهارة". أي ما هو الماء الذي تحصل به الطهارة لمن أراد الطهارة، أي أن يتطهر. فذكرها هنا أن هذا الماء هو الطاهر في ذاته، المطهر لغيره. والطاهر في ذاته أي باعتبار أصل خلقته كما ذكر، وكذلك مطهر لغيره. والماء معروف، الماء معروف لا يحتاج إلى تعريف ولا إلى بيان. لذا قال: "وهو الباقي على أصل خلقته". وسواء كان هذا المطر نازلاً من السماء أو خارجاً من الأرض، أي من العيون أو الأنهار أو السيول أو الأودية أو ما شابه ذلك، كل ذلك يجوز التطهر به، وهذا بإجماع، لا خلاف بين أهل العلم بأنه يجوز التوضؤ بما نزل من السماء أو ما خرج من الأرض من الماء.
وإنما وقع خلاف في ماء البحر. وقع خلاف يسير عند بعض المتقدمين في ماء البحر، هل هو طاهر يتطهر به أم لا؟ ولعل هؤلاء لم يصلهم الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم بطهارته، وإلا لما وجد الخلاف. الحاصل أن ماء البحر كذلك من المياه المطهرة، فهو طاهر في ذاته، ومطهر لغيره. ومطهر لغيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سُئل عن ماء البحر أو سُئل عن البحر، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المذكور: "هو الطهور ماؤه، الطهور ماؤه، الحل ميتته". فالمياه، سواء كانت الخارجة من الأرض، أو النازلة من السماء، أو كانت مياه البحار، كل ذلك يشرع أو كلها طاهرة ومطهرة. وقد ذكرت الأدلة الواضحة المبينة لهذه المسألة.
ثم تعرضوا لأمر، وهو قالوا: "ولا تحصل الطهارة بماء غير الماء"، كالخل والبنزين والعصير والليمون وما شابه ذلك. وهذا كذلك يكاد يكون إجماعاً بين أهل العلم. فالعلماء رحمهم الله تعالى مجمعون على أن غير الماء من المائعات الطاهرات، أنها لا تطهر. مثل ما ذكر هنا، الخل والبنزين وما شابه ذلك. وإنما وقع خلاف في بعض الصور، وهي في النبيذ. في النبيذ، هل يطهر أم لا؟ النبيذ هو الماء الذي يوضع فيه شيء من التمر أو شيء من الزبيب لأجل أن يحلى ذلك الماء فيصير نبيذاً. فيصير نبيذاً. في النبيذ خاصة، وقع خلاف بين أهل العلم، ولكن الصحيح من أقوال أهل العلم أنه كذلك ليس بمطهر، وإن كان طاهراً في نفسه، لأنه حلال يجوز شربه، ولكن لا يجوز أن يتطهر به. وكذلك قل في غيره من الطاهرات غير الماء.
الذين قالوا بجواز النبيذ منهم من حكم الحكم أو أطلق الحكم في جميع النبيذ، فقالوا كل نبيذ يجوز أن يتوضأ به، وبعضهم خص النبيذ بنبيذ التمر خاصة، أما سواه من النبيذ قالوا لا يجزئ، مثل نبيذ الزبيب أو ما شابه ذلك. واستدلوا بما جاء في بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أنه حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن. فطلب النبي صلى الله عليه وسلم قاله: "اتني بماء"، فما وجد ماء، قال: "ما عندي إلا نبيذ، ما عندي إلا نبيذ"، أي نبيذ بالتمر. فقال، جاء في الحديث، فقال: "ماء طيب، وتمر طيب"، فتوضأ به. ولكن الحديث لا يصح، الحديث لا يصح، بل هو ضعيف، بل هو ضعيف. فإذا كان كذلك، فترجع المسألة إلى أصلها. ما هو أصلها؟ الأصل أنه لا يجوز أن يتطهر إلا بالماء. فلا يجوز للإنسان إذا كان فاقداً للماء، يقول: "أنا عندي عصير، أنا عندي عصير، هل يجوز أن أتطهر بالعصير؟" أو آخر يقول: "أنا عندي دلو شاي، أحكم الشاي؟ يقول: حلال، هل يجوز أن يتوضأ به الشاي؟" نقول: لا يجوز. لا يجوز. ليس بمطهر. ومن توضأ بعصير، بشاي، بنزين، بأي شيء من هذه الأشياء، ثم صلى، فصلاته باطلة. صلاته باطلة.
ما الدليل؟ الدليل قول الله جل وعلا بعد أن ذكر الماء أو الوضوء بالماء: "قال فإن لم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً". إن لم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً. ما قال ربنا جل وعلا: "فعليكم بغيره من الطاهرات"، أو ما شابه ذلك من التعبيرات. وهذا يدلنا على أن فاقد الماء ينتقل مباشرة إلى ماذا؟ إلى التيمم. ينتقل مباشرة إلى التيمم، وليس في ذلك أي حرج. الحمد لله، هذا من فضل الله رب العالمين الواسع، فليحمد الله أهل الإسلام على هذه التوسعة من الله رب العالمين. ما عندك ماء؟ انتقل إلى ماذا؟ إلى التيمم. وسيأتي الكلام بإذن الله جل وعلا على أحكام التيمم في بابه بإذن الله جل وعلا.
فالحاصل من هذا أنه لا يجزئ من الماء، لا يجزئ من المطهرات إلا الماء. لا يجزئ من المطهرات، أي من المائعات، إلا الماء. فمن لم يجد الماء، انتقل إلى ماذا؟ انتقل إلى التيمم، لقول الله جل وعلا: "فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً". طيب، هذه أولى هذه المسائل في هذا الدرس.
المسألة الثانية، قالوا إذا، المسألة الثالثة، ها هنا، وهي المسألة الثانية في الدرس: الماء إذا خالطته نجاسة. الماء إذا خالطته نجاسة، أي فما حكمه؟ يعني تخيل إنسان عنده ماء، نحن قلنا لا يتطهر إلا بالماء. إنسان عنده ماء، مثلاً دلو من الماء، سطل فيه ماء، فوقع فيه نجاسة. كيف وقع فيه نجاسة؟ مثلاً، على سبيل المثال، جاء صبي عمره خمس سنوات، فبال في هذا الإناء. وما عنده إلا هذا الإناء. يقال: "هذا الإناء أو هذا الماء وقع فيه نجاسة"، طيب، الآن ما حكمه هذا الماء؟ ما حكمه استخدام هذا الماء؟ فقالوا: هذا الماء هل يكون طاهراً أم لا يكون طاهراً؟ المسألة هذه، قالوا: الماء إذا خالطته نجاسة فغيرت أحد أوصافه الثلاثة: ريحه، أو طعمه، أو لونه، فهو نجس بالإجماع، لا يجوز استعماله، فلا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث، سواء كان كثيراً أو قليلاً. سواء كان كثيراً أو قليلاً. وهذا الأمر، كما ذكروا، مجمع عليه، لا خلاف بين أهل العلم أن الماء، قليلاً كان أو كثيراً، إذا وقعت فيه نجاسة فإنه إن تغيرت أحد أوصافه الثلاثة، إما اللون، تغير لون الماء، أو الريحة، صارت له ريحة نتنة، ريحة نجاسة، أو كذلك طعمه، ذاق
ه الإنسان، فوجد أن الطعم غير الطعم، ليس هو طعم الماء، وإنما هو طعم آخر بسبب النجاسة، فما حكمه؟ أجمع العلماء على نجاسته. أجمع العلماء على نجاسته.
وقد جاء في ذلك حديث، جاء في ذلك حديث رواه الإمام ابن ماجة رحمه الله تعالى من حديث أبي أمامة الباهلي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه، أو طعمه، أو لونه". والحديث لا يصح. الحديث لا يصح من طريق سليمان، وكذلك فيه رشدين بن سعد، وكلاهما ضعيف. ولكن العلماء مجمعون عليه، العلماء مجمعون عليه. هنا قال: "إجماع الإمام الشافعي، والإمام أحمد، والإمام ابن المنذر"، وغيرهم، رحمهم الله تعالى، على أن الماء إذا تغير ريحه، أو طعمه، أو لونه بنجاسة، فإنه يصير نجساً. وإذا كان نجساً، فإنه لا يجوز أن يتطهر به. لماذا؟ لأنه نجس. لأنه نجس. أي كيف يتطهر بالنجاسة؟ والله جل وعلا إنما أمرنا بأن نتطهر بماذا؟ بما هو طاهر. بما هو طاهر.
إذن، الماء إذا خالطته النجاسة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، فغيرت أحد أوصافه، فإنه يكون نجساً. قالوا: أما إن خالطته النجاسة، هذه مسألة أخرى، وصورة أخرى. قالوا: أما إن خالطته النجاسة، ولم تغير أحد أوصافه، الآن عندنا إذا فيه ماء، وقع فيه نجاسة. رأينا صبي يبول فيه، أو مثلاً، مات عصفور، فوقع فيه ميتة نجسة، أخرجنا هذا الطير. هل يجوز استعمال هذا الماء؟ رأينا طفلاً مثلاً بال فيه، هل يجوز استخدام هذا الماء؟ يقولون هنا، يقولون: أما إن خالطته النجاسة ولم تغير أحد أوصافه، تقدم، إذا تغير أحد أوصافه، انتهينا، نجس. الصورة الثانية: إذا لم تتغير أحد أوصافه، فما الحكم؟ قالوا: فإن كان كثيراً، لم ينجس، وتحصل الطهارة به. أما إن كان قليلاً، فينجس، ولا تحصل الطهارة به. قالوا: وحد الماء الكثير، ما بلغ قلتين فأكثر، والقليل ما دون ذلك. والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور، لا ينجسه شيء"، وهو حديث صحيح، كما ذكر، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه العلامة الألباني، رحمه الله تعالى.
وحديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل الخبث، لم يحمل الخبث". وهذا الحديث كذلك رواه أحمد، وأصحاب السنن. وهذا الحديث محل خلاف بين أهل العلم. فمن أهل العلم من يصحح هذا الحديث، وهناك من ذكر أن العلامة الألباني رحمه الله تعالى يصححه، ومن أهل العلم من لا يصحح الحديث، بل يحكم عليه بالإضطراب. يحكم على الحديث بالإضطراب. فأخذنا بقول العلامة الألباني رحمه الله تعالى: "إذا بلغ الماء القلتين، لم يحمل الخبث".
إذن، نرجع إلى المسألة. ما هي المسألة؟ نتصور الآن المسألة: المسألة: بالى مثلاً صبي، أو وقع طير في ماء، وما تغير شيء من أوصاف ذلك الماء. هل يكون هذا الماء طاهراً فيجوز أن يتوضأ منه، أم أنه يكون نجساً، لا يجوز أن يتوضأ منه؟ ذكرها هنا قولا لأهل العلم، ما هو هذا القول؟ قالوا: التفريق بين كثير الماء وقليله. فإذا كان كثيراً وحده أن يبلغ القلتين، فإنه يكون ماذا؟ طاهراً. وإن كان قليلاً، فإنه يكون ماذا؟ فإنه يكون نجساً.
هذا قول، وذكرت في المسألة سبعة أقوال، وأرجح هذه الأقوال والله تعالى أعلى وأعلم، هو قول الجمهور. وقول الجمهور هو أنه لا فرق بين كثير الماء وقليله، وهذا الذي عليه طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، وطائفة كبيرة من التابعين وتابعيهم، وقول كثير من الأئمة رحمهم الله تعالى. وهو أنه لا فرق بين كثير الماء وقليله. بمعنى أن كثير الماء وقليله، إذا وقعت فيه النجاسة، فغيرت أحد أوصافه، صار ماذا؟ صار نجساً، لا يجوز أن يتطهر به. وإذا وقعت فيه نجاسة، سواء كان كثيراً أو قليلاً، فلم تغير أحد أوصافه الثلاثة، أي اللون، أو الريح، أو الطعم، فإن الماء طاهر، ويجوز استخدامه. هذا القول هو أعدل الأقوال، وأصح الأقوال. هو الذي كذلك رجحه طائفة من المحققين من أهل العلم، كالإمام الشوكاني رحمه الله تعالى، وغيره من المحققين من أهل العلم.
فالصحيح في هذه المسألة، والله تعالى أعلى وأعلم، هو ما سمعتموه. والذي عليه أكثر أهل العلم، أنه لا فرق بين كثير الماء وقليله في وقوع النجاسة. إذا وقعت النجاسة، فتغير، فهو نجس. إذا وقعت النجاسة، فلم يتغير، فهو ماذا؟ فهو طاهر. هذا خلاصة ما يقال في هذه المسألة، والله تعالى أعلى وأعلم.
وقد جاء الوقت، نكتفي بهذا القدر. إلى هنا، سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.