الدرس في كتاب الطهارة 18، ألقاها
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد، توقفنا في الدرس الماضي ونحن نتكلم على نواقض الوضوء. وانتهينا بحمد الله جل وعلا من المسألة السادسة في نواقض الوضوء. ونحن اليوم بإذن الله عز وجل ندخل في المسألة السابعة.
قالوا: المسألة السابعة. طيب قبل هذا، في قوله السادس: الرد عن الإسلام، لقوله تعالى: "ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله". فقدم معنى أن المقصود بحبوط العمل حبوط الثواب. وحبوط العمل، كما مر معنا، وأنشرنا، يكون مقيداً بالموت، بمعنى أن الإنسان إذا مات على الكفر بعد الإسلام حبط عمله. حبط عمله، كما جاء في الآية الأخرى: "ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، وجاء في الآية الأخرى: "فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم". فالآية الأخرى قيلت هذه الآية، فيكون المقصود بمن يحبط عمله من يموت على الكفر. أما من لم يمت على الكفر بل أسلم وتاب ورجع إلى الله جل وعلا، فكما تقدم معنا في الدرس السابق، أن أعماله التي عملها قبل الرد في حال إسلامه تكون مجزئة. كما تقدم معنا في مسألة الحج، من حج حجة صحيحة ثم ارتد بعد ذلك، ارتد بعد أن قام الحج. هل يجب عليه إن رجع الإسلام فتاب إلى الله فريضة الحج، أم أنها تكون قد سقطت بإسلامه الأول؟ والأول الصحيح من قول أهل العلم، أنها قد سقطت بإقامته له في أثناء إسلامه، وأن إحباط العمل إنما يكون إذا مات على الكفر.
طيب، قال: وكل ما أوجب الغسل أوجب الوضوء غير الموت. فمثلاً، هذا أن كل ناقض أو كل حدث أكبر فإنه يكون ناقضاً للوضوء. فمثلاً الجنابة تكون كذلك ناقضاً للوضوء، فهي حدث أكبر توجب الغسل. توجب الغسل، الوضوء يسقط، أي ينتقض بها، ولكنه يوجب الغسل. قال الله جل وعلا: "وَإِن كُنْتُمْ جُنُوبًا فَاتَّطَّهَّرُوا". فهكذا، ما جاء في هذا المعنى من موجبات الغسل التي هي ناقضة للغسل، بمعنى أن العبادة لا تصلح إلا بالغسل، كما سمعنا، كمسألة الجنابة.
طيب، المسألة السابعة، ما يجب له الوضوء. قالوا: يجب على المكلف فعل الوضوء للأمور الآتية. معنى، متى يجب على المسلمين الوضوء؟ قالوا: يجب على المكلف فعل الوضوء للأمور الآتية، أي للأمور الآتية. واحد: الصلاة. والصلاة سواء كانت فرضاً أو نافلة، لها الوضوء لمن قدر على الوضوء. قالوا، لحديث ابن عمر مرفوعاً: "لا يقبل الله صلاة بغير الطهور، ولا صدقة من غلول"، والحديث رواه مسلم. والشاهد منه: "لا يقبل"، وعدم القبول يدل على عدم الصحة. عدم القبول يدل على عدم الصحة بدلالة اللزوم. وهل هما متلازمان دائماً وأبداً؟ الجواب: لا. الجواب: لا، ولكن الأدلة الأخرى كذلك تدل على هذا المعنى، من أن من لم يصلي بوضوء فإن صلاته لا تصح. وهذا إجماع إلى جانب الأدلة الكثيرة المتكاثرة الدالة على هذا المعنى. فيكون هذا الموضع مما يكون فيه التلازم بين القبول وبين الصحة. وإن لا، فإنه قد يكون العمل غير متقبل باعتبار الثواب، وإن كان متقبل من جهة أخرى وهي جهة الأداء، بمعنى يسقط عليه الواجب ولكنه لا ينال ثواباً. يعني، مثل من أتى كاهناً. النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً أو عرافاً لم يقبل له صلاة أربعين ليلة". هل معنى هذا لا يقبل، أي أن صلاته غير صحيحة؟ الجواب: أنها صحيحة، ولكن الثواب ليس له ثواب تلك الصلاة. وهكذا في مسألة شرب الخمر والصلاة على هذه الحال، وما شابه ذلك.
فالحاصل أن الصلاة، كما دلت الأدلة الكثيرة، مما تجب فيها أو لا تصح إلا بالوضوء. قال الله جل وعلا: "وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، إلى آخر الآية. ونبينا صلى الله عليه وسلم، كما في هذا الحديث وفي حديث أبي هريرة، "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". بهذا المعنى أيضاً. والأمر هذا كما مر معنا، من الأمور المعلومة في دين الله جل وعلا بالضرورة.
الثاني: الطواف بالبيت الحرام. قالوا: فرضاً كان أو نفلاً، أي سواء كان الطائف بالبيت طوافاً فرضاً، كطواف الإفاضة أو طواف الزيارة للمعتمر أو المتمتع، أو طواف الوداع. المهم، طواف كان واجباً أو نفلاً، نفلاً كان يطوفاً بالبيت طوافاً مطلقاً، ليس داخلاً فيه هيئة معتمر ولا حاج. قالوا: لفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه توضأ ثم طاف بالبيت، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام". قال، ولمنعه الحائض من الطواف حتى تطهر.
طيب، الحديث الأول: فإنه توضأ ثم طاف بالبيت. قالوا: كما في الصحيحين وفي غيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم طاف بالبيت. جاء من حديث ابن عمر، وجاء كذلك عن جابر، وعن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ممن حكوا صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام". ذكرها هنا، أنه أخرج ابن حبان والحاكم وغيرهم، وأن طائفة من العلماء صححوا الحديث من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. إلا أن الإمام الدارقطني رحمه الله تعالى ذكر هذا الحديث في كتابه "العلل"، وحكم على الحديث بأنه موقوف من قول ابن عمر رضي الله عنهما، أي ليس من حديث ابن عباس، لا مرفوعاً ولا موقوفاً، وإنما هو من حديث ابن عمر، موقوفاً على ابن عمر.
وقولهم: ولمنعه الحائض من الطواف حتى تطهر، كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة، وكذلك جاء نحوه من حديث غيرها، أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حاضت عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحج، قال لها: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". فمن استدل من أهل العلم على أن الوضوء واجب للطواف، سواءً كان واجباً أو كان الطواف المستحب. وهذا قول جمهور من أهل العلم. وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن الوضوء مستحب، إلى أن الوضوء للحاج أو للمعتمر أو للطائف بالبيت مستحب، لفعله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وأما الحديث الذي سمعتموه، "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام"، كما سمعتم، إنما هو من قول ابن عمر على قول الدارقطني رحمه الله. وإلا، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى. قال: وهناك فروق كثيرة بين الصلاة وبين الطواف. الطواف، فالإنسان يمشي فيه. والطواف، يمشي الإنسان يطوف، بخلاف الصلاة، يبقى ثابتاً. الطواف، يتكلم فيه، الصلاة لا يتكلم فيها. الطواف، ربما يحتاج إلى شرب أو عطش في أثناء الطواف، له أن يشرب، أما الصلاة فلا يشرب. إلى غير ذلك من الفروق.
فالحاصل أن الأظهر من أقوال أهل العلم، والله تعالى أعلى وأعلم، أنه مستحب. ولا سيما مع المشقة الكبيرة التي يعرفها كل من ذهب للحج في هذه الأزمان، أو ذهب كذلك إلى العمرة، ولا سيما في شهر رمضان، ما يستطيع أن يصل. يعني إذا دخل الطواف ثم حصل له أن أحدث، ما يستطيع أن يخرج إلى الحمام إلا بشق الأنفس. فلو قيل له: ثم رجعت فتوضأ، والقول على أن الموالاة واجبة في الطواف، مشقة كما يقال يحصل فيها ما الله جل وعلا به علم.
فالحاصل من هذا أن الأظهر من أقوال أهل العلم أن الوضوء مستحب، أن الوضوء مستحب، وهو الذي اختاره شيخ الإسلام العثيمين رحمه الله تعالى، ومن المعاصرين العلامة العثيمين رحم الله الجميع.
قالوا: الثالث: طبعاً، إلا الحائض. إلا الحائض، فإنها لا تطوف بالبيت بإجماع. إلا الحائض، فإنها لا تطوف بالبيت بإجماع. على تفاصيل أو استثناءات ذكرها بعض أهل العلم، ليس محلها ها هنا، ولكن محلها بإذن الله جل وعلا في كتاب الحج. وننتقي إلى غيره.
قالوا: الثالث: مس المصحف ببشرته بلا حائل. لقوله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون". ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر". طيب، قولهم مس المصحف ببشرته بلا حائل، مفهومه أنه إذا مس المصحف بحائل فلا بأس. إذا مس المصحف بحائل فلا بأس. كان يأتي مثلاً يأخذ المصحف، لكن يضع على يديه خرقة. أو المرأة تعمل مثلاً قفازات، فتمسك المصحف بحائل. على هذا الكلام، أنه لا بأس. واستدلوا لذلك بقوله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون". وهذه الآية، جماعة من أهل العلم ينازعون في دلالتها على هذا الموضع، بل يقولون بأن المقصود هنا بالمطهرون هم الملائكة. المقصود بالمطهرون هنا هم الملائكة، وهم الذين يمسون ويمسكون المصحف. وقد جاء هذا عن طائفة من السلف رضي الله عنهم وأرضاهم، أنهم فسروا هذه الآية بالملائكة. "لا يمسه إلا المطهرون"، "لا يمسه إلا المطهرون". لأن الاستدلال فيها، يعني الآية، إن قيل: "لا يمسه إلا المطهرون"، إن أريد به الإخبار، فالواقع أن المصحف يمسه المطهر وغير المطهر. فإذن، لا يراد به هذا المعنى. وإن أريد به النهي، فكذلك الدلالة. هذه الآية فيها خفاء.
وقولهم: ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر". وهذا الحديث جاء عن جماعة، وهو من أحسن طرقه، ما جاء من طريق عمر بن أبي باكر بن حزم، أي في صحيفته المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. والحديث، يعني كما ذكر، صححه جماعة من المتقدمين والمتأخرين، وبعض أهل العلم كذلك ينازع في صحته. فالحديث، يعني جاء عن إمام أحمد رحمه الله تعالى أنه سئل عنه، فقال: "صحيح إن شاء الله"، وجاء عن جماعة من الأئمة رحمهم الله تعالى أنهم صححوا هذا الحديث. فإذا صح هذا الحديث، فهل فيه دلالة على هذا المعنى أم ليس فيه دلالة؟ الجواب: أن معنى الطاهر يطلق ويراد به عدة أمور. فقد يراد بالطاهر من ليس على حدث أكبر أو على حدث أصغر، أو على جنابة، أو على مرأة حائض، أو كافر، لأن الكافر ليس بطاهر.
فلما كانت دلالة الحديث محتملة لأكثر من معنى، نظر إلى أدلة أخرى تبين وتوضح المعنى الذي هو أشبه ما يقال بأنه مجمل، والمجمل تتضح دلالته بإرجاعه إلى المفصل. فجاء في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن أو قال بالمصحف إلى أرض العدو". قالوا، ففيه دلالة على أن المقصود لا يذهب به إلى أرض العدو حتى لا يمسه هؤلاء، حتى لا يمسه الكفار. فيكون فيه دلالة على أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، أي لا يمسه إلا مسلم، أي لا يمسه كافر، لأن الكفار ليسوا بطاهرين، لقول الله جل وعلا: "إنما المشركون نجس". المشركون ماذا؟ نجس. بخلاف المسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم على المسلم، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، حينما كان جنباً فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض سكاك المدينة، فذهب فاغتسل ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن"، وفي رواية: "إن المسلم لا ينجس". ما معنى لا ينجس؟ أنه على الطهارة، أنه طاهر، لا ينجس، أنه طاهر. وأيضاً، يعني مما استدل به، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن تأتي بالخمرة من المسجد، فقالت: يا رسول الله، إني حائض. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن حيضتك ليست بيدك"، أي المرأة إذا كانت حائض، هل تكون الحيضة بيدها؟ الجواب: لا. فإذاً، ما المعنى الذي لأجله قالوا: إذا كان بحائل فلا بأس أن تمس المصحف، وإن لم يكن بحائل فلا. فهل معناه أنها نجسة اليد، أو أن الجنب نجس اليد، أو أن المحدث حدثاً أصغر نجس اليد؟ الجواب: لا، بل هم طاهرون. ولكن النجاسة في المرأة في موضع الدم، أو في الدم نفسه.
فإذاً، هذه الأدلة تدل على هذا المعنى. هذا من حيث الدليل، ومن حيث كذلك النظر إلى الحديث في قوله: "لا يمس القرآن إلا طاهر". قالوا: فرق بين الطاهر والمتطهر. لو قال: لا يمس القرآن إلا المتطهر، لكان فيه دلالة على هذا المعنى. لأن المسلم طاهر، لكن متطهر، أي أنه يعمل ويقوم بالطهارة، سواء كانت الطهارة من الحدث الأصغر أو كانت من الحدث الأكبر، سواء هذا أو ذاك، فكله يدل على أنه ماذا؟ على أنه متطهر، أن المتطهر هو الذي يفعل الطهارة، يتطهر، والحديث جاء فيه إلا طاهر.
فالحاصل من هذا، والله تعالى أعلى وأعلم، أن مس المصحف لغير، يعني للمحدث حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر، لا بأس به. لا بأس به للبراءة الأصلية. ولما سمعتم من أدلة بعموماتها، تدل على هذا المعنى، والله أعلى وأعلم. وسبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.