الدرس في كتاب الطهارة 6، ألقاها
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. ثم أما بعد:
قالوا: المسألة السادسة: آثار الآدميين وبهيمة الأنعام. نعم، تذكرت شيئًا قبل أن ندخل في هذا الدرس، وهو أننا ذكرنا في الدرس الماضي أن التعبير في قوله "ولأنه صلى الله عليه وسلم صب على جابر من وضوئه إذا كان مريضًا"، قلنا: الأولى بالتعبير أن يقال "إذ كان مريضًا". وسألنا في الدرس الماضي: هل يوجد هذا في نسخة؟ فما أجاب أحد. ثم بعد الدرس جاءني أحد الإخوة فأخبرني أنه قد وجد في نسخته كذلك، أي بلفظ "إذ"، وهو كما سمعتم الأولى؛ لأن "إذ" تفيد الظرفية الزمانية، أي في ذاك الوقت، بخلاف "إذا" فإنها تفيد الشرط، وفيها معنى من معاني التكرار.
طيب، المسألة السادسة: آثار الآدميين وبهيمة الأنعام. أي ما حكم آثار الآدميين وبهيمة الأنعام؟ قالوا: السور هو ما بقي في الإناء بعد شرب الشارب منه، وكذلك يقال في الطعام، أي المتبقي من الطعام بعد الآكل، يقال فيه بأنه سور، ولكن ذكرها هنا الشرب؛ لأن المسائل المتعلقة بهذا الباب هي مسائل المياه وما تعلق بباب المياه في الطهارة. لذا قالوا: هو ما بقي في الإناء بعد شرب الشارب منه. قالوا: فالآدمي طاهر، أي الإنسان. وقيل: آدمي نسبة إلى أبيه آدم، طاهر، وسؤره طاهر، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، أي سواء كان هذا الإنسان الآدمي مسلمًا والأمر فيه واضح، أو كان كافرًا فإنه كذلك طاهر، على القول الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم، من أن الكافر كذلك طاهر، أي طاهر البدن، وإن كان نجسًا باعتبار المعتقد. وقول الله جل وعلا: "إنما المشركون نجس"، أي باعتبار المعتقد الفاسد الباطل، لا باعتقاد أبدانهم وأجسامهم.
قالوا: سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وكذلك الجنب والحائض، أي وكذلك الإنسان الجنب. الجنب وهو الذي نزل منه الماء، إما بجماع أو باحتلام أو بإيلاج في فرج. يقال فيه بأنه جنب. وهل يكون هذا الجنب طاهرًا أم نجسًا؟ الجواب: أن الإنسان الجنب طاهر، وإن كان على جنابة، كما سيأتي الإشارة إليه في حديث أبي هريرة، جاء في الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة، فانسل وابتعد، فلما رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أو جالس النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، قال: "ألم أرك يا أبا هريرة؟"، فقال: "يا رسول الله، كنت على جنابة، فكرهت أن أجالسك، فذهبت واغتسلت ثم جئت". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن"، وفي رواية: "إن المسلم، لا ينجس". وهذا دليل واضح وصريح في أن الجنب لا يكون نجسًا بجنابته، وإنما يكون هذا من الأحداث التي توجب الطهارة الكبرى، وهي الغسل، كما سيأتي بإذن الله جل وعلا. وكذلك كما مر شيء من ذلك.
قالوا: وكذلك الجنب والحائض. والحائض هي المرأة التي بها الحيض. وكذا يدخل في معنى الحائض النفساء، لأن المرأة الحائض والنفساء تشتركان في أكثر الأحكام، وإن كانت النفساء تفارق الحائض في بعض الأحكام، إلا أن جملة الأحكام من حيث الطهارة وعدمها، ومن حيث الصلاة والصيام، وإتيان الزوج، وما شابه ذلك، الحائض والنفساء أحكامهما واحدة. فكذلك المرأة الحائض أو النفساء هي طاهرة، ليست بنجسة، وإنما النجس الدم الخارج، إنما النجس هو دم الحيض أو دم النفاس، وهذا بإجماع. أن دم الحيض ودم النفاس نجس، ودل على هذا كتاب الله جل وعلا، وكذلك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الإشارة إلى هذا في بابه.
قال: وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن لا ينجس لا بجنابة، ولا المرأة كذلك بحيض، ولا نفاس، ولا جنابة، ولا بغير ذلك. المؤمن لا ينجس". قالوا: وعن عائشة أنها كانت تشرب من الإناء وهي حائض، فيأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع فمه على موضع فمها. وهذا الحديث في صحيح مسلم. وفيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تشرب من الإناء وهي حائض، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذ ذلك الإناء، ويشرب من المكان الذي شربت منه عائشة. وهذا يدلنا على أنها طاهرة وليست بنجسة. أيضًا قد ثبت عنها رضي الله عنها وأرضاها، كما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في حجرها القرآن وهي حائض. وهذا كذلك يدلنا على هذا المعنى: على أن المرأة الحائض لا تنجس، وإنما النجس هو الدم الخارج.
وأيضًا النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة ذات يوم وهي حائض أن تأتي بالخمرة من المسجد، فقالت: "يا رسول الله، إني حائض"، فقال لها: "حائضتك ليست بيدك". وفي دلالة على هذا المعنى بأنها طاهرة، وما مسته الحائض فهو طاهر. وكذلك إذا دخلت المسجد المرأة الحائض، لا تكون أو لا تنجس المسجد؛ لأنها طاهرة، وإن كانت حائضًا.
قالوا: وقد أجمع العلماء على طهارة سؤر ما يأكل لحمه من بهيمة الأنعام وغيرها. وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم، وغيرها مما يؤكل مثل الحصان، مثل الأرنب، الغزال، الدجاج، وما شابه ذلك. فكل هؤلاء مما يؤكل لحمه، وسؤر ما يأكل لحمه طاهر، لا خلاف بين أهل العلم في ذلك. بمعنى أننا إذا وضعنا إناءً فيه ماء، فجاءت غنمة فشربت من ذلك الماء، فالماء طاهر، لنا أن نتطهر به. إذا جاء مثلاً حصان فشرب من ذلك الماء، كذلك طاهر. جاء الدجاج وشرب من ذلك الماء، فالماء طاهر. وهذا بإجماع بين أهل العلم بأن الماء الذي شرب منه ما يأكل لحمه فإنه يبقى على طهارته.
قالوا: أما ما لا يؤكل لحمه كالسباع والحمر وغيرها، فالصحيح أن سؤرها طاهر ولا يؤثر في الماء، وبخاصة إذا كان الماء كثيرًا. أما إذا كان الماء قليلاً وتغير بسبب شربها منه فإنه ينجس. قولهم: أما ما لا يؤكل لحمه كالسباع، السباع لا تؤكل، السباع كالأسود، النمور، الفهود، وما شابه ذلك، تُسمى سباع. وكذلك الحمر، والمراد بالحمر الحمر الأهلية، لا الوحشية؛ لأن الحمر الوحشية مما يؤكل لحمه، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه، بأنه صاد حمارًا وحشيًا، وفيه أنه أكل منه وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا منه فأكل، فهو مباح. وسيأتي بإذن الله جل وعلا كلام على هذه الأمور، ولكن الشاهد من هذا أن المراد بالحمر أي الأهلية، والحمر الأهلية وغيرها مما لا يؤكل.
فالصحيح أن سؤرها طاهر. وقولهم "وغيرها" ليس على إطلاقه، لأنه سيأتي معنى استثناء الكلب والخنزير، وسيأتي الكلام عليها في موضعه بإذن الله جل وعلا.
قولهم: "فالصحيح أن سؤرها طاهر" هو كما قيل: إن سؤر السباع وما لا يؤكل لحمه بأنه طاهر. قد يقول قائل: ما الدليل على طهارته؟ فالجواب: الأصل ما هو؟ الأصل في هذا الباب الطهارة، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل. فإذا كان الأصل في هذه الأشياء الطهارة، وليس ثم دليل يدل على أن سؤرها نجس، فنبقى على الأصل. ومن خرج عن الأصل هو الذي يطالَب بالدليل. هذه قاعدة نحفظها لأنها ستتكرر معنا بإذن الله جل وعلا. وهي أن الباقي على الأصل لا يُطالَب بالدليل، وإنما يطالب بالدليل من خرج عن الأصل. من خرج عن الأصل هو الذي يقال له: ما دليلك على كذا؟ وما دليلك على كذا؟ أما من كان باقيًا على الأصل فإنه يبقى على الأصل.
فكما سمعتم، الدليل على طهارة سؤر هذه الأشياء هو الأصل، أي أن الأصل الطهارة، ولا دليل يدل على نجاستها. وقولهم "ولا يؤثر الماء وبخاصة إذا كان الماء كثيرًا"، هذا الأمر واضح. قالوا: أما إذا كان الماء قليلاً وتغير بسبب شربها منه فإنه ينجس. هذا فيه
نظر، وذلك لأننا إما أن نقول بأن سؤر السباع ونحوها مما لا يؤكل لحمه نجس، فإذا قلنا بأنه نجس، فإنه إذا غير أحد الأوصاف في الماء الكثير أو القليل، يكون نجسًا. واضح، جماعة أم لا؟ إذا قلنا بأن سؤر ما لا يؤكل لحمه نجس، واضح، فيقال: إذا تغيرت أحد أوصاف الماء، سواء كان كثيرًا أو قليلاً، فإنه يصير نجسًا. لماذا؟ لما تقدم معنا من أن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا أن تقع فيه نجاسة، فتغير أحد أوصافه، ريحه، طعمه، لونه. واضح، جماعة أم لا؟ سواء كان الماء كثيرًا أو كان الماء قليلاً. وإما أن نقول هنا بأن سؤر ما لا يؤكل لحمه طاهر، وهذا هو الأصل، وهذا هو الصواب. واضح، جماعة؟ الصحيح أن سؤر ما لا يؤكل لحمه طاهر، فإذا غير الطاهر الماء فلا يكون نجسًا، بل هو باقٍ على طهوريته ما دام ماءً، كما تقدم معنا في الدرس الماضي في الماء المستعمل. واضح هذا، جماعة أم لا؟ الحكم هو كالحكم المتقدم معنا في الماء المستعمل. فالحاصل أن الماء أو السؤر، ما لا يؤكل لحمه، كثيره وقليله، يكون طاهرًا، وإن حصل فيه شيء من التغير، ما دام أنه ماء فهو باقٍ على طهوريته. والله تعالى أعلى وأعلم.
قالوا: ودللوا على ذلك بالحديث السابق، أي "المؤمن لا ينجس". ودللوا على ذلك الحديث السابق، يعني قد تكون إشارة إلى "المؤمن لا ينجس"، وقد تكون إشارة وهو الأظهر إلى حديث "الماء طهور لا ينجسه شيء". وفيه أنه سُئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث". أي هذا الحديث كما تقدم له منطوقٌ ومفهوم. فمن استدل بمنطوقه على أن الماء إذا كان قلتين فما فوق، فإنه لا يحمل الخبث، وإذا كان دون القلتين، فإنه يحمل الخبث. وتقدم معنا أن هذا المفهوم عارضه عموم، وهو حديث "الماء طهور لا ينجسه شيء". وهل يقوى مفهوم المخالفة على تخصيص هذا العام أم لا؟ مسألة خلافية بين الأصوليين. والذي عليه الجماهير من الأصوليين، أو كثير من أهل الأصول، أن المفهوم لا يخصص العام، ولا سيما إذا كان العام في القوة مثل هذا. إذا كان العام في القوة مثل هذا، والله تعالى أعلى وأعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة وقد شربت من الإناء: "إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات". هذا جاء في حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه. وكما ذكر هنا، أن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى يصحح الحديث، لكن زيادة "الطوافات" بعض أهل العلم يحكموا عليها بالشذوذ. أي أن الحديث محفوظ من غير زيادة "الطوافات". بمعنى أن اللفظ المحفوظ: "إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم". وفي الحديث قصة أن أبا قتادة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه أُتي بوضوء، أي بماء لأجل أن يتوضأ، فجاءت هرة فتركها تشرب من ذلك الماء. فلما فرغت من شربها، قال أبو قتادة رضي الله عنه وأرضاه: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول"، يقول ماذا؟ "إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم". وهذا الحديث كما ترون واضح وصريح في هذه المسألة: أن سؤر ما لا يؤكل لحمه الهر، هل يؤكل أم لا؟ لا يؤكل لحمه، فسؤره طاهر. فسؤره طاهر بنص هذا الحديث.
قالوا: ولأنه يشق التحرز منها في الغالب. فلو قلنا بنجاسة سؤرها، ولأنه يشق التحرز منها في الغالب. هذا قد يتصور عند أصحاب البادية، وعند أصحاب الحيوان. أما أصحاب المدن قد لا يتصورون مثل هذه الأمور. فمن حيث الدليل هو ما تقدم: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث"، "إنها ليست بنجس". وأيضًا من حيث التعليل قالوا: ولأنه يشق التحرز منها في الغالب. فلو قلنا بنجاسة سؤرها ووجوب غسله الأشياء، لكان في ذلك مشقة، وهي مرفوعة عن هذه الأمة. والقاعدة عند الفقهاء: "المشقة تجلب التيسير". وقال الله جل وعلا: "ما جعل عليكم في الدين من حرج".
قال: أما سؤر الكلب فإنه نجس، وكذلك الخنازير. وكذلك الخنازير. بمعنى أن سؤر الكلب نجس، وكذلك سؤر الخنزير. قال: أما الكلب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب". فقول النبي صلى الله عليه وسلم "طهور" يدل على النجاسة. يدل على النجاسة بمعنى أن الإناء قد حصلت فيه النجاسة بسبب ولوغ الكلب فيه. فلذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب". فإذن سؤر الكلب نجس، لذا جاء في بعض روايات صحيح مسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب". في بعض روايات: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليُرِقْه". جاء في بعض روايات صحيح مسلم: "فليُرِقْه". وهذه الرواية من أهل العلم يحتجون بها ويصححونها، ومنهم من يحكم عليها بالشذوذ، بأنها زيادة شاذة. شذ بها علي بن مصر، وهو ثقة ثبت، ولكن بعض الحفاظ كالدارقطني وغيره حكموا على هذه الزيادة بالشذوذ. فالحاصل أن ما ولغ فيه الكلب يكون نجسًا، فلا يتطهر به. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات".
قال بعض أهل العلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم "يغسله سبع مرات"، في إشارة إلى أن الماء يراق ولا يستفاد منه. قالوا: أما الخنزير فلنجاسته وخبثه وقذارته. قال الله تعالى: "فإنه رجس"، أي في الخنزير: "فإنه رجس"، معناه أنه نجس. والخنزير كما ذكر العلماء رحمهم الله تعالى نجس ظاهرًا وباطنًا. بل ذكر بعض أهل العلم أنه أخبث الحيوانات مطلقًا، وبعضهم ذكر الخلاف في أي الحيوانات أخبث: الكلب أم الخنزير؟ فاختلف العلماء رحمهم الله تعالى في الكلب أخبث أم الخنزير. والحاصل أن الخنزير كما هو واضح من حيث الخبث، خبيث. بخلاف الكلب، هو باعتبار لعابه وما حصل منه، يكون الخبث بهذا الاعتبار. فالشاهد من هذا أن سؤر الخنزير إذا جاء خنزير فشرب من إناء فيه ماء، فإن الماء لا يستخدم بسبب ذلك الشرب الذي شرب منه الخنزير؛ لأنه يكون نجسًا بشربه منه. والله تعالى أعلى وأعلم.
قالوا: الباب الثاني في الآنية. وفيه عدة مسائل. الباب الثاني في الآنية، أي تقدم معنا الباب الأول، وهو في المياه، والباب الثاني في الآنية، أي في أحكام الآنية. وتقدم معنا أن الباب معناه المدخل، والمدخل هنا مدخلاً معنويًا في مسائل وأحكام الآنية. وتذكر الآنية في كتب الفقه، ولا سيما في كتب الطهارة، لأنها تذكر كذلك بعد باب المياه، وذلك للمناسبة. المناسبة بين الماء والآنية، وذلك أن الإنسان إذا علم أحكام المياه، معلوم أن الماء غالبًا ودائمًا وأكثر أحواله يكون في آنية، لذا ناسب أن يذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى بعد باب المياه باب الآنية، لهذا المعنى.
قالوا: الآنية هي الأوعية التي يحفظ فيها الماء وغيره، سواء كانت من الحديد أو من غيره. والأصل فيها الإباحة، لقوله تعالى: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا"، أي أن الأصل في الآنية الإباحة، سواء كانت من حديد، سواء كانت من خشب، سواء كانت من جلود، سواء كانت من معدن، إلى غير ذلك مما يستخدم للآنية. الأصل أنها مباحة، إلا أن يدل الدليل على حرمتها، فتترك لأجل الدليل الخاص الدال على حرمتها.
قالوا: المسألة الأولى: استعمال آنية الذهب والفضة، وغيرهما في الطهارة. أي ما حكم استعمال الآنية التي من ذهب، أو الآنية التي من فضة، في الطهارة؟ قالوا: يجوز استعمال جميع الأواني للأكل والشرب وسائر الاستعمال، إذا كانت طاهرة مباحة، ولو كانت ثمينة. لبقائها على الأصل، وهو الإباحة. ما عدا آنية الذهب والفضة، فإنه يحرم الأكل والشرب فيهما خاصة، دون سائر الاستعمال. لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشرب في آنية الذهب وال
فضة، ولا تأكل في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة"، كما في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه وأرضاه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم". وهذا الحديث كذلك متفق عليه، من حديث أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها.
قالوا: فهذا نص على تحريم الأكل والشرب دون سائر الاستعمال. فدل على جواز استعمالها في الطهارة. والنهي عما يتناول الإناء الخالص. والنهي عام يتناول الإناء الخالص، والمموه بالذهب والفضة، أو الذي فيه شيء من الذهب والفضة.
طيب، في هذه المسألة أو ضمن هذه المسألة عدة مسائل، فنشير إليها بإشارات بإذن الله جل وعلا. قولهم: "يجوز استعمال جميع الأواني للأكل والشرب وسائر الاستعمال"، وهذا واضح، أي أن جميع الأواني أصل فيها الإباحة، أصل فيها الإباحة والحل والطهارة، فتستخدم بقاء على الأصل، إلا ما دل الدليل. قالوا: إذا كانت طاهرة مباحة، ولو كانت ثمينة. بمعنى أنها لو كانت ثمينة، أي بأموال ثمينة، فإنها يجوز استخدامها. قالوا: لبقائها على الأصل، وهو الإباحة، ما عدا آنية الذهب والفضة، فإنه يحرم الأكل والشرب فيهما خاصة، دون سائر الاستعمال، لقوله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث.
فمن المسائل المذكورة: هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشرب في آنية الذهب والفضة، ولا تأكل في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة"، هل هذا خاص بالذهب والفضة أم أنه عام في كل آنية ثمينة؟ ذهب بعض أهل العلم إلى الأول، وبعض أهل العلم إلى الثاني. بمعنى أن من أهل العلم من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذهب والفضة إشارة إلى غيرها من الآنية الثمينة. مثلاً: هل يجوز استخدام الآنية من المجوهرات أم لا؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تستخدم، إلحاقًا بالذهب والفضة، أي قياسًا على الذهب والفضة. وذهب بعض أهل العلم إلى ماذا؟ إلى أن الحديث باقٍ على ما هو عليه، أي أن النهي إنما عن الذهب والفضة، وإن كل ما سواها من الآنية الثمينة فإنها مباحة مباحة الاستعمال بقاء على الأصل. وهذا هو الأصل. ما هو الأصل؟ الأصل بقاء على الحل، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا بدليل واضح، ولا دليل. إذن يجوز استخدام الآنية، ولو كانت ثمينة، إلا الذهب والفضة.
هذه مسألة. المسألة الثانية: قولهم: "فإنه يحرم الأكل والشرب فيهما خاصة، دون سائر الاستعمال". بمعنى: هل النهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الآكل في آنية الذهب والفضة إنما هو خاص في الآكل والشرب، أم أنه يدخل فيه بقية الاستعمالات؟ مثلاً: هل يجوز الإنسان أن يأتي بآنية من ذهب، إناء من ذهب فيضع فيه الماء ويتوضأ؟ إناء من فضة يضع فيه الماء ويتوضأ؟ بعض أهل العلم ذهب إلى المنع، بل وحكى على ذلك الإجماع. حكى على ذلك الإجماع، بمعنى أنهم حكوا الإجماع على أن آنية الذهب والفضة لا يجوز أن تستخدم في الآكل ولا في الشرب، ولا تستخدم كذلك في غيرها من الاستعمالات، مثل أن تكون آنية للوضوء، أن تكون آنية للوضوء. والصحيح أن في المسألة خلاف، وأن الراجح ما ذكر هنا، وأن الراجح ما ذكر هنا، من أنه إنما عن الأكل والشرب. ولا شك ولا ريب أن الأحوطاء والأسلم والأبرأ، وكذلك الأقرب إلى هديه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أن تترك الآنية أي من الذهب والفضة في استخدامها للآنية التي للطهارة. لماذا؟ أولاً: خروج من خلاف، وثانيًا: لأنها من أفعال المترفين، من أفعال المترفين. أنت ستدخل على عبادة عظيمة جليلة، ولكن انظر على أي حال تتوضأ، وعلى أي حال تتقبل على الله جل وعلا. فالحاصل أن استخدام هذه الآنية من حيث الحل وعدمه، الظاهر والله أعلى وأعلم: من حل. ثانيًا: من حيث الأولى والأفضل، الأولى والأفضل: الترك. أي أن تستخدم الآنية غير آنية الذهب والفضة في الاستعمال.
المسألة الثالثة التي مذكورة ضمن هذا: فدل على جواز استعمالها في الطهارة. تقدم أن هذا هو الصحيح، أنه يجوز استخدامها واستعمالها في الطهارة، وإنما النهي عن الأكل والشرب. بقي قالوا: النهي عام يتناول الإناء الخالص أو المموه بالذهب والفضة. بمعنى: الإناء إذا كان خالصًا من ذهب أو من فضة، الأمر فيه واضح. بقي الإناء المموه. ما معنى المموه؟ معنى الملبس، يقولون: المطلي بالذهب، أو المطلي بالفضة. هل يلحق بحكمه أم لا؟ هذه كذلك من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين أهل العلم. بمعنى: أن إناء من معدن مثلاً، ولكنه مطلي بالذهب، أو مطلي بالفضة، هل يجوز أن يستخدم في الأكل والشرب؟ ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه يلحق به، وذهب آخرون إلى أنه لا يلحق. وبعض أهل العلم ذكر تفصيلاً في ذلك، فقالوا: ما يستطاع فصله وعزله، قالوا فإنه لا يجوز استعماله. وما لا يستطاع فصله فإنه يجوز استعماله؛ لأن هذه الآنية لا تسمى آنية ذهب، ولا أنها آنية فضة. واضح، جماعة، أم لا؟ يقولون: الآنية المموهة بالذهب والفضة لا يقال فيها بأنها آنية ذهب، ولا أنها آنية فضة. ولكن يقال: هذه آنية مموهة بذهب، أو يعني ملبسة بذهب، أو مطلية بالذهب. لا يقول الإنسان: إن هذه آنية ذهب أو آنية فضة. فقالوا: إذن يجوز استخدامها إذا كان الحال كذلك. ولا شك ولا ريب أن الأبرأ للذمة والأحوط البعد عنها، البعد عنها للملابسة الموجودة فيها. والله تعالى أعلى وأعلم.
وأيضًا قولهم: "أو الذي فيه شيء من الذهب والفضة"، أي إذا كان في الإناء ذهب أو فضة خليط من الذهب أو فضة. هل يلحق به كذلك أم لا؟ الكلام فيه كالكلام في سابقته. إذا غلب الذهب، فالأمر واضح. وإذا غلب غير الذهب المعدن، هل يلحق به أم لا؟ الكلام فيه كالكلام في سابقته. والله تعالى أعلى وأعلم. وسبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.